حسابات مترابطة:
لماذا تسعى أنقرة إلى تسييس أزمة اللاجئين الأفغان مع أوروبا؟

حسابات مترابطة:

لماذا تسعى أنقرة إلى تسييس أزمة اللاجئين الأفغان مع أوروبا؟



أعلنت تركيا خلال الفترة الماضية عن رفضها استقبال اللاجئين الأفغان، وقاد الرئيس التركي “أردوغان” حراكًا دبلوماسيًا مع القادة الأوروبيين لإقناعهم بأهمية دور الاتحاد في دعم تركيا في التصدي للظاهرة التي بدأت تتحول إلى موجة هجرة كبيرة من أفغانستان نحو الأراضي التركية، وذلك بالتزامن مع السقوط السريع للعاصمة كابول في يد حركة طالبان. ويسعى الرئيس “أردوغان” إلى تسييس أزمة اللاجئين الأفغان، لتحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية التي لا تقتصر فقط على حلحلة القضايا الخلافية مع الاتحاد، بقدر ما ترتبط بمساومة الاتحاد للحصول على مخصصات مالية إضافية من جهة، وقطع الطريق من جهة أخرى على المعارضة التركية التي نجحت في تحقيق اختراق غير مسبوق في الشارع التركي من خلال الاستثمار في أخطاء حكومة أنقرة في التعامل مع ملف اللاجئين.

اتجهت تركيا في الفترة الأخيرة إلى توظيف أزمة اللاجئين الأفغان لممارسة ضغوط أقوى على الدول الأوروبية، حيث تهيمن المخاوف مجددًا على قادة الاتحاد الأوروبي من مواجهة أزمة جديدة تتعلق باللاجئين؛ إذ يتدفق آلاف الأفغان عبر إيران إلى تركيا، منذ سيطرة حركة “طالبان” على السلطة في أعقاب الانسحاب الأمريكي. وأكد الرئيس التركي، في 22 أغسطس الجاري، للمستشارة الألمانية “ميركل” أن “بلاده لا تستطيع تحمّل عبء هجرة إضافيّة من أفغانستان”. وأضاف “أن هناك واجبات مهمة تقع على عاتق أوروبا لحل الهجرة الأفغانية غير النظامية في أقرب وقت، قبل أن تتحول إلى أزمة”.

وتراهن تركيا على استثمار تزايد المخاوف الأوروبية من موجة إضافية من اللاجئين الأفغان، وهو ما تجلى في جهود النمسا وهولندا وإسبانيا واليونان لضبط عملية دخول اللاجئين الأفغان إلى أوروبا. ورغم ذلك، بدا لافتًا أن تركيا تسعى إلى تسييس ملف اللاجئين الأفغان مع الدول الأوروبية؛ إذ دعا الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في محادثاته مع زعماء أوروبيين إلى ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة في أفغانستان وإيران قبل أن تتحول الهجرة غير النظامية القادمة من أفغانستان إلى أزمة. وتابع: “ينبغي على الجميع، وخاصة الدول الأوروبية، تحمل مسؤوليتها بصدق، وأن على المجتمع الدولي التكاتف بشأن هذه القضية”.

مواقف كاشفة

تكشف مواقف أنقرة وحساباتها مع القوى الأوروبية فيما يخص أزمة اللاجئين الأفغان، عن خلفيات سياسية معقدة، تعكس أهداف تركيا من إثارة أزمة اللاجئين الأفغان، من حيث التوقيت. فعلى الرغم من الاتفاق الموقع بين أنقرة وبروكسل في مارس 2016، لوقف تدفق المهاجرين، وإعادة المهاجرين “غير الشرعيين” الذين يصلون الاتحاد الأوروبي إلى تركيا؛ إلا أن أنقرة بعد تفاقم أزمة اللاجئين الأفغان طالبت علنًا بزيادة المساهمات المالية لمنظمات الأمم المتحدة ذات الصلة، وخاصة المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين من أجل قيام تركيا بدور أكثر فعالية في استيعاب اللاجئين.

كما تمارس الحكومة التركية ضغوطًا على الاتحاد الأوروبي للحصول على مخصصات مالية إضافية تحت ستار حماية واستيعاب اللاجئين. وكان بارزًا هنا تصريحات الرئيس التركي، في 23 أغسطس الجاري، عندما قال إنّ “الموقف المتردّد للاتّحاد الأوروبّي في شأن تلبية تطلّعات تركيا المشروعة المتمثّلة بتحديث اتّفاق الهجرة المبرم في 18 مارس 2016، يؤثّر سلبًا على إمكان التعاون في مجال الهجرة”.

على صعيد متصل، يقود الرئيس “أردوغان” حراكًا دبلوماسيًا واسعًا منذ أيام، حيث هاتف عددًا من زعماء دول الجوار الأوروبي في مسعى للتوصل إلى تفاهم للتحرك بشكل جماعي لمنع موجة هجرة ضخمة من أفغانستان، مؤكدًا على أن تداعياتها ستصل إلى أوروبا إذا لم تتعاون مع تركيا في هذا الملف الحساس.

وإلى جانب تصريحات الرئيس التركي، أكدت أنقرة لمسؤول المجلس الأوروبي “تشارلز ميشيل”، أنها لا يمكنها “تحمل أعباء موجة جديدة من المهاجرين”. وأكد المسؤولون الأتراك أن بلادهم تستضيف حاليًا 5 ملايين لاجئ، ولا يمكنها تحمل أعباء موجة جديدة من المهاجرين.

وبالتوازي مع الحراك الدبلوماسي الذي تقوم به أنقرة مع الاتحاد الأوروبي، شددت من تهديدتها بشأن عدم الاستمرار في استيعاب أو استقبال اللاجئين الأفغان، واتّهمت أنقرة مرارًا عواصم الاتّحاد الأوروبي بعدم الوفاء بالتزاماتها في الاتّفاق الموقّع في عام 2016.

دوافع مختلفة

تتمثل أهم أسباب السياسة التصعيدية في ملف اللاجئين الأفغان، والتي تتبناها تركيا تجاه الاتحاد الأوروبي، في التالي:

1- حلحلة القضايا الخلافية بين أنقرة والاتحاد الأوروبي: ويأتي في الصدارة منها تعارض الأهداف في ليبيا ومنطقة شرق المتوسط. وفي هذا السياق، تسعى أنقرة إلى توظيف أزمة اللاجئين الأفغان التي تثير مخاوف أوروبا لمحاولة ضبط حدود التوتر مع الاتحاد الأوروبي خلال المرحلة المقبلة، وتوسيع مساحات التفاهم حول القضايا الخلافية، في إطار ما يمكن تسميته بــ”تنسيق الضرورة” الذي تفرضه تداعيات المشهد الأفغاني بعد سيطرة حركة طالبان على أفغانستان، على نحو ما عبر عنه الرئيس التركي في منتصف أغسطس الماضي عندما أكد على ضرورة تعزيز التعاون بين أوروبا وتركيا في مجال الهجرة على أساس التفاهم والمصالح المتبادلة.

2- مساومة الاتحاد لعقد اتفاق مالي جديد: يسعى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” إلى استخدام اللاجئين كورقة مساومة لعقد اتفاق مالي جديد مع الاتحاد الأوروبي، ولا سيما في ظل تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية التي تعانيها تركيا، وفشل الإجراءات التقليدية في التحايل عليها. وأدت الأزمة المالية إلى تراجع شعبية الرئيس “أردوغان”، فضلًا عن التآكل الحادث في الرصيد التقليدي لحزب العدالة والتنمية في الشارع التركي، ووسط قواعده التقليدية، وتواصل شعبية النظام الحاكم في تركيا تراجعها مع استمرار أزمة العملة التركية التي فقدت نحو ثلث قيمتها أمام الدولار، وتنامي معدلات التضخم والبطالة التي وصلت الذروة في ظل تفشي جائحة كورونا في السنوات الثلاث الماضية.

هنا، يمكن فهم إصرار أنقرة على تسييس أزمة اللاجئين الأفغان مع الاتحاد الأوروبي، فإذا كان التدفق المستمر للاجئين الأفغان إلى تركيا يشكل تحديًا كبيرًا للحكومة التركية؛ فإنه -في المقابل- يوفر لها فرصة يمكن استغلالها في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، فربما تسمح لها بانتزاع تنازلات مختلفة من بروكسل، بما في ذلك الحوافز المالية، وكذلك بوقف سيل الانتقادات الأوروبية للممارسات السلطوية للنظام التركي.

والأرجح أن الرئيس التركي يطمح إلى تحويل محنة اللاجئين الأفغان إلى منحة لتركيا يمكن استثمارها على غرار ما حدث مع أزمة اللاجئين السوريين قبل نحو سبعة أعوام، في انتزاع مزيد من التنازلات من الاتحاد الأوروبي، وانعكس ذلك بوضوح في تصريحات الرئيس التركي الذي جدد تأكيده على أن هناك واجبات مهمة تقع على عاتق أوروبا لحل الهجرة الأفغانية غير النظامية في أقرب وقت، ولوح بأن التردد الأوروبي في تحديث اتفاق الهجرة الموقّع مع أنقرة في مارس 2016 قد يؤثر سلبًا على إمكانية التعاون في هذا المجال. واعتبر أنّه في حال لم يتمّ تعديل اتفاق 2016، فإنّه “ليس من الواقعيّ” أن ينتظر الاتّحاد الأوروبي المزيد من جانب تركيا.

3- تحقيق انتصار لنظام “أردوغان” في الداخل التركي: يواجه الرئيس التركي منذ أسابيع ضغوطًا سياسية متزايدة، وحملة هائلة تقوم بها المعارضة التركية للتحذير من التعاظم الكبير في أعداد اللاجئين الأفغان. وصعّد حزب الشعب الجمهوري من نبرة هجومه ضد سياسات الحكومة التركية في التعامل مع الأزمة، لا سيما وأن الأيام التي خلت شهدت تزايدًا كبيرًا في أعداد اللاجئين الأفغان الذين دخلوا تركيا عبر الحدود الإيرانية. وفجرت ظاهرة اللاجئين الأفغان مخاوف الرئيس التركي من انعكاسات الأزمة على موقع وموضع الحزب الحاكم في الانتخابات المقرر لها عام 2023، خاصة أن قطاعات واسعة من الأتراك باتت ترفض سياسة الباب المفتوح التي تبنتها أنقرة في التعامل مع اللاجئين.

في هذا السياق، يمكن فهم تأكيد الحكومة التركية على رفض استقبال اللاجئين الأفغان، وتحميل دول الاتحاد الأوروبي مخاطر أية ارتدادات سلبية للأزمة. كما أن هذا التوجه لا ينفصل عن قلق الرئيس “رجب طيب أردوغان” من أن تتحول أزمة اللاجئين الأفغان إلى فرصة للمعارضة يمكنها توظيفها في تكثيف هجومها على حزب العدالة والتنمية الذي ينتهج -وفق وجهة نظرها- سياسات خاطئة في هذا الملف، تنعكس سلبًا على الأتراك وأوضاعهم المعيشية، فضلًا عما تفرضه من تهديدات على الأمن القومي التركي.

استثمار بالأزمة

ختامًا، يمكن القول إن تركيا تحاول استثمار الأزمة الأفغانية من خلال مد جسور الحوار مع طالبان، ليس فقط لتعزيز حضورها في أفغانستان، ولعب دور أكبر عقب اكتمال انسحاب الناتو؛ لكن أيضًا من خلال الاستثمار في الأزمة للضغط على أعصاب الاتحاد الأوروبي لحلحلة الملفات الشائكة مع الاتحاد من جهة، ومساومة أوروبا للحصول على دعم مالي جديد تحت ستار منع الهجرة غير النظامية للأفغان إلى أوروبا من جهة أخرى.